الأربعاء، 31 يناير 2018

أهل كانون

أهل كانون


لا أعرف لماذا يُفضِّل عدد غفيرٌ من الأدباء والشعراء استخدامَ أسماءِ الشهور السيريانيَّة في أعمالهم الأدبيَّة؟
ربما في الشِّعر ضرورةُ الوزن هي السبب أو المعنى الذي يحمله، المهم أني صرتُ كقارئٍ أستلذُّ نُطقَ (تموز) و(نيسان) أكثرَ من يوليو وأبريل؛ لذا أكتبُ اليوم لكم عن نموذج من أهل كانون الثاني، وهو يقابل في الشهور الميلاديَّة شهر يناير، الشهر الذي وُلدتُ فيه.

عرفتُ صغيرًا ببيتِ جدي أنَّ الكانون هو موقد النار، كانتْ مهمَّتي أن آتي لجدَّتي بالبوص والحطب؛ لتحافظَ على نشاط النار أسفل قُدور الطعام، كلمة تفتح الشهيَّة، وتبعث على الدفء، ويقال: إنَّ اسمَ (كانون) مُشتقٌّ من الثبات والاستقرار في اللغة السيريانيَّة، ويرى البعض أنَّ (كانون) كلمةٌ يابانيَّة تعني: الشتاء.

والمعروف أنَّ شهر (كانون) مِن شُهور فصل الشتاء، الذي أُفضِّله على حرِّ الصيف، ربما لأني قدِمْتُ إليه مِن رَحِمِ أمِّي، فدثَّروني بتلافيفَ كثيفةٍ، فَذُقتُ بسببه معنى الدِّفء، وربما يُعزى لذلك عشقًا وجدته في صدري للغيوم وللمطر!

الفضول والتحدِّي وربما الجنون قادني ذات مرَّة إلى أن أخرجَ خصيصى بدراجتي الناريَّة مسرعًا على الأسفلت في يومٍ شديدِ المطر، الشتاء لم يقلقني صغيرًا؛ إذ تغلَّبت عليه بالمدفأة، بحكايات جدَّتي، وبالتكوُّر في حجرها، وكبيرًا لا يؤرِّقني الشتاء ولا الصقيع طالما وُجِدَ الشِّعْر والحب.

تَبدَّلت الأفكار عبر سنوات عمري الفائت طبقًا للمُعطيات، وللأصدقاء، وللقراءات، والبحث عن الحقِّ والحقيقة، انضممت لطرقٍ صوفيَّة، وحفظت أشعارَهم وأورادهم، وواظَبْت على أذكارهم، ثمَّ تأثَّرت بالسلفيِّين وحججِهم، ثم انبهرتُ بتيارِ الإسلام السياسيِّ ومشروعهم، ثم تركت الجميعَ!

التنقُّل والتغيير طبيعيٌّ، فهو تابعٌ لتغيُّر القناعات، والآن بعد كلِّ هذه التجارب تغيَّر العمر، وتبدَّلت الأحداث، وتوصلتُ إلى أنني مستمرٌّ في المُضيِّ قدمًا خَلْف قناعاتي التى تقول حاليًّا: إنه من العبث أن تتبع أحدًا ما أو طائفة ما؛ فالجميع لديه أخطاء، ويكفيني ما أحمله على مستوى الفرد.

كلما لاح وبدا ظل الأربعين في الاقتراب مني رأيتُ نفسي أكثر، وأدركت صفاتها وتفاصيلَها، لمستُ الثابت فيها والمتغيِّر، تقبَّلتُ أصدقائي، وتعايشتُ معهم، تحمَّلوا مني عصبيةَ الشباب، وقبلوا فيَّ عيوبًا، وقبلتُ منهم، أُسكن صادقَهم سويداءَ القلب، وأحذر كاذبهم، العمرُ صار أقصر، والثواني صارت أغلى، فلن أُكرِّر في عقدي الخامس تجاربَ الماضي بنفس الخطوات؛ لمعرفتي بنتائجها مسبقًا.

أرفضُ أن تسجنني العاداتُ والتقاليد والأمور الاجتماعيَّة المملَّة، أصبر عليها أحيانًا؛ لأني أشعر أنَّ بداخلي حُلمًا غامضًا لا أُدرك كُنْهَه، ولا أعرف تفاصيله، بل أنتظره وفقط، لا شكَّ في كوني مستقلًّا حرًّا عصبيًّا قليًلا، إلا أنَّ الخجل والجرأة متجاوران داخلي بنَفْس الحجم، ولكن لا أعلم متى وكيف يظهر كلٌّ منهما؟ لم أعِ ضوابطَ لهما، فتارةً خجول لا أقوى على الحديث، وتارةً أخرى أجدني جريئًا حدَّ التهوُّر.

بعد المعايشة مع أحدٍ ما، أملك قدرةً لتوقُّع تصرفاتِه المستقبليَّة، فيصيبني الفتور من الأفعال وردودها، أرى دومًا أننا بحاجةٍ لتغيير جذريٍّ، أعشق مَن يفهمني ويتفهَّمني دون تصريح، أعلم أنَّ هناك خيرًا ما بكلِّ مَن حولي، أجتهد بالبحث عنه، وأدرك تمامًا أنَّ لأغلب ما يحكيه الناسُ عن الناس صدقًا يسيرًا وزيفًا كثيرًا؛ لذا أُعمِل عقلي جيدًا فيما يحكَى لي؛ كي لا أسرع في إصدار أحكام، فالدنيا خدعتني قديمًا، حيث كنت شاباً ليِّناً، لم تنضج أحكامي بعد، تركتها بعد أن أنجبت لي بعض الهموم.

أشد ما أكره أن تُفتح مشكلة ما عدَّة مرَّات، بعدما ظننتُ أني أغلقتُها بإحكامٍ، لا أنسى الإساءةَ، لكن أحبُّ التعاتب، وأملك قدرةً على الصفح والمسامحة، وأسعى لذلك، لا أحب أن أستهلك وقتي في صراعاتٍ ومشاكل، وأعلم أنَّ الزمن يدور دورتَه على الجميع بكلِّ حيدةٍ، فمَن أذاق غيرَه المُرَّ حتمًا سيذوقه ذات يوم، حين ينتقدني الأحبَّة بما ليس فيَّ يُصيبني الغمُّ وأعتزلهم وأنتقدهم في نفسي بما هو فيهم، حتى أتمكَّنَ مِن تجاوُز الموقف.

أملك ذاكرةً تضعني في حرَجٍ شديد كل يوم؛ لا أحفظ الأسماء، وأرتبك حين ألتقي أشخاصًا أعرفهم جيدًا؛ لأن أشكالَهم محفورةٌ داخلي، ولكنَّ أسماءهم تُراوغني دومًا، وتهرب من بين خلايا المخ، كذلك لا يثبت في ذاكرتي كلُّ ما هو تافهٌ بظنِّي، أو يمكن الاعتماد فيه على غيري.

رغم أنَّ هناك مَن يتحامق في هذه السن وبعدها فإن أحد المفكِّرين ذَهَب أنَّ كلَّ ما جرى قبل الأربعين لا يعدو مجرَّد أبحاث وتجارب، إذ يُشرق الاستقرار في هذا العمر، وتصبح الحكمة مطلبًا للرجال، فتطفو على الفم، وتظلِّل الأفعال، عمرٌ يعيد فيه الإنسان جردَ ماضيه، قد يستحسن ما استقبحه، ويستنكر ما استحسنه، يبتسم لأمرٍ أحزَنَه في الماضي، ويحزن لفعل أبهَجَه، تتغيَّر بعضُ مفاهيمه، نظرته، ونظرياته أيضًا.

رغم الاستقرار فإنها مرحلة تتداخل فيها الخيارات بشكلٍ مربكٍ، قديمًا كانت الأمور تُقسم بِيُسر إلى سيئ وحسن، ولكن مع الرشد تتشكَّل الأمور لتخيِّرُك ما بين السيئ والأسوأ، وبين الحسن والأحسن أمر يتطلَّب تفكيرًا ومشورةً، وتأنِّيًا لا تهوُّرًا.

تتساوى الأعمار إن لم تفعلْ شيئًا يخدم الإنسان، فمَن مات في الأربعين كمَن مات في الخمسين أو الستين، مرَّت السنون، وأتممت اليوم العشرة الرابعة، عمرٌ له وقفةٌ وتساؤلات حيَّة لم تُفلح الأيام التي مرَّت أن تخمدها بإجابات قاطعةٍ أهمُّها: ماذا قدمت؟ وماذا سأقدِّم فيما يأتي؟


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/125140/#ixzz55mS8kJCQ



اعلان 1
اعلان 2

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي